الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: كَعْبٍ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ). اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأكثر العلماء أنه يجوز للصحيح أن يتصدق بماله كله فى صحته، إلا أنهم استحبوا أن يبقى لنفسه منه ما يعيش به خوف الحاجة وما يتقى من آفات الفقر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فحضه على الأفضل، وفى هذا حجة لمن قال: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فهو خير لك) وقد ذكرت من خالف ذلك فى كتاب الزكاة فى باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى من كلام الطبرى. واستدل البخارى بأنه لما جازت الصدقة بالعقار ووقف غلاتها على المساكين جاز ذلك فى الرقيق والدواب؛ إذ المعنى واحد فى انتفاع المساكين بغلاتها وبقاء أصولها وقد تقدم بيان هذا فى باب الشروط فى الوقف فأغنى عن إعادته، وسأذكر اختلاف العلماء فى وقف الرقيق والحيوان بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال المهلب: وفيه أن من تاب الله عليه وخلصه من ملمة نزلت به؛ أنه ينبغى له أن يشكر الله على ذلك بالصدقة وما شاكلها من أفعال البر.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَا، هُمَا وَالِيَانِ، وَالٍ يَرِثُ، وَذَاكَ الَّذِى يَرْزُقُ، وَوَالٍ لا يَرِثُ، فَذَاكَ الَّذِى يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ. اختلف العلماء فى هذه الآية فقال قوم: إنها منسوخة بالمواريث. هذا قول سعيد بن المسيب وطائفة من التابعين. وقالت عائشة وابن عباس والنخعى وعطاء والحسن: إنها محكمة غير منسوخة. وقال ابن عباس والنخعى وعطاء والحسن: إنها محكمة غير منسوخة. وقال ابن عباس: هى واجبة يعمل بها. وذكر إسماعيل القاضى، أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، فلم يدع فى الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين...} [النساء: 8] الآية. قال القاسم بن محمد: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، إنما ذلك فى الوصية، يريد الميت أن يوصى. وقال ابن المسيب: إنما ذلك فى الثلث عند الوصية. وروى قتادة عن يحيى بن يعمر، قال: ثلاث آيات فى كتاب الله محكمات مدنيات قد ضيعهن الناس. فذكر هذه الآية، وآية الاستئذان للذين لم يبلغوا الحلم فى العورات الثلاث، وهذه الآية {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 3] الآية. وقال إسماعيل: وأما الذين قالوا: إنها محكمة. فيمكن أن يكونوا تأولوا أنها على الترغيب دون الإيجاب، ويمكن أن يكونوا تأولوها على الإيجاب، وأما الذين قالوا: إنها منسوخة. فأحسب أنهم تأولوها على الإيجاب، ثم نسخت بآية الوصية، وأما الذين تأولوها أن ذلك إنما عنى به من الوصية فإن الله تعالى قال فى آية المواريث: (من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء: 11]، فليس يجوز أن ينقص أهل المواريث مما جعل الله لهم إلا بدين على الميت أو وصية يوصى بها فتنفذ، إلا أن تكون الوصية للفقراء أو فى أبواب البر فيخص منها أولو القربى واليتامى بالاجتهاد، وقد تأول زيد بن أسلم أن هذا شىء أمر به الذى يوصى فى وقت وصيته كما تأوله ابن عباس. وروى ابن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن قال: سألت زيد بن أسلم عن قوله: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين} [النساء: 8]، قال: هذا الرجل حين يوصى ويحضره ناس ويحضره أولو القربى واليتامى والمساكين فيذكرونه قرابته والمساكين، فيقولون: فلان مسكين. وفلان ذو حاجة. فأمره أن يحسن ولا يجحف بولده، فنهى الذين حضروا أن يتكلموا بغير ذلك وتلا: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم (مثل ما ترك) ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا} [النساء: 9]. وقال قتادة فى قوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا} [النساء: 9]، قال: إذا حضرت وصية ميت فاؤمره بما كنت تأمر به نفسك مما يتقرب به إلى الله، وخف فى ذلك ما كنت تخافه على ضعفهم لو تركتهم بعدك، فاتق الله وقل قولاً سديدًا إن هو زاغ.
- فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا). - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، استفتى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وعليها نذر، فقال: اقضه عنها. قال ابن المنذر: حديث عائشة يدل على إجازة الصدقة التطوع عن الميت، ومثله حديث العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وروى أبو نعيم، عن هشام، عن قتادة، عن سعيد (أن سعد بن عبادة قال للنبى حين أمره أن يتصدق عن أمه: أى الصدقة أفضل يا رسول الله؟ قال: سقى الماء). فدلت هذه الآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم أن تأويل قوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] على الخصوص، فأما العتق عن الميت فلا أعلم فيه خبرًا يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين أنها أعتقت عبدًا عن أخيها عبد الرحمن وكان مات ولم يوصى. وأجاز ذلك الشافعى، وقال بعض أصحابه: لما جاز أن يتطوع بالصدقة وهى مال جاز أن يتطوع بالعتق؛ لأنه مال. وفرق غيره بين الصدقة والعتق فقال: إنما أجزنا الصدقة بالأخبار الثابتة، والعتق لا خبر فيه، بل فى قوله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق) دليل على منعه؛ لأن الحى هو المعتق بغير أمر الميت فله الولاء، فإذا ثبت له الولاء فليس للميت منه شىء. وهذا القول ليس بصحيح؛ لأنه قد روى فى حديث سعد بن عبادة أنه قال للنبى: (إن أمى هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم) فدل أن العتق ينفع الميت، ويشهد لذلك فعل عائشة فى عتقها عن أخيها. وقد اختلف الآثار فى النذر الذى كان على أم سعد، فقيل: إنه كان غير عتق. وذلك مذكور فى كتاب النذور فى باب من مات وعليه نذر. وقال ابن المنذر: ممن كان يجيز الحج التطوع عن الميت: الأوزاعى والشافعى وأحمد، ومنعه غيرهم. وقد تقدم فى كتاب الحج، وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين أنها أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات. قال ابن المنذر: وفى ترك النبى صلى الله عليه وسلم إنكار فعل المرأة التى افتلتت نفسها حين ماتت ولم توصى؛ دليل على أن تارك الوصية غير عاص لله؛ إذ لو كان فرضًا لأخبر النبى أنها قد تركت فرضًا، وأما قضاء الدين عن الميت فما لزم الذمة فلا خلاف فى قضائه عن الميت، وما لزم البدن ففيه الخلاف عن العلماء، وقد تقدم فى كتاب النذور وفى كتاب الحج. وقوله: (افتلتت نفسها) أى: أخذت نفسها فجأة، يقال: افتلت الشىء إذا أخذته فجأة.
- فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِىَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا). الإشهاد واجب فى الوقف ولا يتم إلا به. قال المهلب: وإذا كان الله قد أمر بالإشهاد فى البيع، والبيع خروج ملك بعوض ظاهر، فالوقف أولى بذلك؛ لأن الخروج عنه بغير عوض، مع أن الأكثر فى الأوقاف والصدقات أن تكون على غير عوض فى الأعيان.
- فيه: عَائِشَةَ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] قَالَتْ عَائِشَةَ: هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.. الحديث. هذا مذكور فى كتاب النكاح وهو أولى به.
حسيبًا: كافيًا، وللوصى أن يعمل فى مال اليتيم ويأكل منه بقدر عمالته. - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ (ثَمْغٌ)، وَكَانَ نَخْلا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى اسْتَفَدْتُ مَالا، وَهُوَ عِنْدِى نَفِيسٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لا يُبَاعُ وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ، فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَفِى الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِى الْقُرْبَى، وَلا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ). وفيه: عَائِشَةَ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا) وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ، أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ. قال المهلب: إنما أدخل هذا الحديث فى هذا الباب؛ لأن عمر حبس ماله على أصناف وجعله إلى من يليه وينظر فيه كما جعل مال اليتيم إلى من يليه وينظر فيه، فالنظر لهؤلاء الأصناف كالنظر لليتامى؛ لأنهم من جملة هذه الأصناف. وفيه من الفقه: أن عمر فهم عن الله أن لولى هذا المال أن يأكل منه بالمعروف، كما قال الله تعالى. وقوله: غير متمول لقول الله: (ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبوا} [النساء: 6]، فدل أن ما ليس بسرف أنه جائز لولى اليتيم أن يأكله. وقوله: (لا جناح على من وليه) ولم يخص غنيًا من الفقير، فيه إجازة أكل الغنى ممايلى، وتفسير قوله تعالى: {ومن كان غنيا فليستعفف} [النساء: 6] أنه على الندب وإن أكل بالمعروف لم يكن عليه حرج والله أعلم. قال المؤلف: إلا أن جمهور علماء التأويل إنما أباحوا للولى الأكل من مال اليتيم إذا كان فقيرًا ولم يذكروا فى ذلك الغنى، واختلفوا فى الوصى الفقير إذا أكل بالمعروف هل يكون عليه غرم ذلك إذا أيسر؟ فقالت طائفة: إذا أيسر أداه. روى ذلك عن سعيد بن جبير وعبيدة وأبى العالية ومجاهد وعطاء، واحتجوا بما رواه قبيصة، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مصرف، قال: قال عمر: إنى أنزلت مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، ثم قضيت. وقالت طائفة: لا غرم عليه إذا أيسر. روى ذلك عن عطاء أيضًا والحسن البصرى والنخعى وقتادة، وعليه الفقهاء، وقد روى حديث عمر ولم يذكر فيه: قضيت. رواه سعيد، عن قتادة، عن أبى مجلز، عن عمر. ومن رأى القضاء، فذلك خلاف لكتاب الله؛ لأن الله أباح للولى الفقير أن يأكل بالمعروف ولم يوجب عليه شيئًا. وقد روى عن ابن عباس ما يبين هذه القصة، روى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد أن رجلا سأل ابن عباس، فقال: إن لى إبلاً وليتيم فى حجرى إبل، وانا أمنح من إبلى وأفقر فما يحل لى من إبله؟ فقال: إن كنت تلتمس ضالتها وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها، فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك فى ظهر. قال ابن القاسم: ما سمعنا بفتيا من غير رواية أحسن منها. فهذا ابن عباس قد أباح للغنى أن يشرب من لبنها بالمعروف من أجل قيامه عليها وخدمته لها، فكيف يجب أن يكون على الفقير أن يقضى ما أكل منها بالمعروف إذا أيسر، والنظر فى ذلك أيضًا يبطل وجوب القضاء؛ لأن عمر شبه مال الله بمال اليتيم. وقد أجمعت الأمة أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل منه بالمعروف؛ لأن الله قد فرض سهمه فى مال الله، فلا حاجة لهم فى قول عمر: (ثم قضيت أن) لو صح عنه، والله الموفق. وأما تأويل قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6]، قال ابن عباس: ابتلوا اليتامى أى: اختبروا عقولهم. وهو قول الحسن وقتادة، وقال الثورى: جربوهم. وقوله: (حتى إذا بلغ النكاح} [النساء: 6]، يعنى الحلم. عن ابن عباس ومجاهد) فإن آنستم منهم} [النساء: 6] عرفتم منهم رشدًا. وبهذا قال مالك وأكثر العلماء، وقال الشعبى، والقاسم بن محمد: إن الرجل يمشط وما أونس منه الرشد. وفيه قول آخر: وهو أن يكون بعد بلوغه صالحًا فى دينه. عن الحسن، وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ اليتيم، وكان صحيح العقل، دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأنه لا يرى الحجر على حر مسلم. قال ابن المنذر: الصبى من دفع المال إليه قبل بلوغه وإن كان مصلحًا، فإذا بلغ وكان غير رشيد وجب منع ماله منه، وكل ما أباحه الله بشرطين لم يجز إطلاقه بأحدهما، ألا ترى أن من طلق زوجته ثلاثًا لا تحل له حتى تنكح غيره ويطأها، فإن نكحت ولم تُطأ لم تحل للأول، فكذلك لا يجوز دفع المال إلى اليتيم، وإن بلغ النكاح، حتى يؤنس منه الرشد، والله الموفق.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ). قال المؤلف: أكل مال اليتيم من الكبائر، وقد أخبر الله أن من أكله ظلمًا أنه يأكل النار ويصلى السعير، وهذا عند أهل السنة إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأنه عندهم فى مشيئة الله، قال سعيد بن جبير: لما نزلت: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] أمسك الناس فلم يخالطوا اليتامى فى طعامهم حتى نزلت: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220]، قال: وليس فى القرآن: (ويسألونك (إلا ثلاث عشرة مسألة من قلة ما كانوا يسألونه، وسيأتى ما قال العلماء فى الكبائر فى كتاب الأدب.
{لأعْنَتَكُمْ} لأحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ، {وَعَنَتِ} [طه: 111] خَضَعَتْ. وقال نَافِعٍ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الأشْيَاءِ إِلَيْهِ فِى مَالِ الْيَتِيمِ، أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَيَنْظُرُون الَّذِى هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ من الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. قَالَ عَطَاءٌ: فِى يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يُنْفِقُ الْوَلِىُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ. ذكر أبو عبيد، عن ابن عباس فى قوله: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} [البقرة: 220]، قال: لما أنزل الله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] الآية كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم فى شىء، وسألوا النبى صلى الله عليه وسلم عنه فأنزل الله: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم.. ولو شاء الله لأعنتكم} [البقرة: 220]، يعنى لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه يسر ووسع فقال: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]، وروى النخعى، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مال اليتيم عندى، لا أخلط طعامه بطعامى، ولا شرابه بشرابى. قال أبو عبيد: والذى دار عليه المعنى من هذا أن الله تعالى لما أوجب النار لآكل مال اليتيم أحجم المسلمون عن كل شىء من أمرهم حتى عن مخالطتهم، فنسخ الله ذلك بالإذن فى المخالطة، والإذن فى الإصابة من مالهم بالمعروف إذا كان الولى محتاجًا. قال أبو عبيد: ومخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرز طعامه عنه ولا يجد بدا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحرى، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندى أصل لما يفعله الرفقاء فى الأسفار أنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد لا يتساوون فى كثرة المطعم وقلته، وليس كل من قل طعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كأن هذا فى أموال اليتامى واسعًا كان فى غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس.
- فيه: أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِى لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟. قال المهلب: فيه من الفقه: جواز استخدام اليتيم الحر الصغير الذى لا يحوز أمره. وفيه: أن خدمة العالم والإمام واجبة على المسلمين وأن ذلك شرف لمن خدمهم لما يرجى من بركة ذلك.
- فيه: أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمرن: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، أَوْ رَايِحٌ، شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَفِى بَنِى عَمِّهِ). - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ لِى مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّى قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا). قال المهلب: إذا لم يبين الحدود فى الوقف فإنما يجوز إذا كان للأرض اسم معلوم يقع عليها وتتعين به، كما كان بيرحاء معينًا، وكما كان المخراف معينًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معينًا وكانت له مخاريف وأموال كثيرة، فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف فى هذا. وفيه: أن لفظ الصدقة يخرج الشىء المتصدق به عن ملك الذى يملكه قبل أن يتصدق به، ولا رجوع له فيه، وهو حجة لمالك فى إجازته للموهوب له، وللمتصدق عليه المطالبة بالصدقة وإن لم يحزها حتى يحوزها، وتصح له ما دام المتصدق والواهب حيا، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيون والشافعى أن اللفظ بالصدقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعين وغيره حتى تقبض، وليس للموهوب له ولا للمتصدق عليه المطالبة بها على ما تقدم فى كتاب الهبات. وفى هذا الحديث دليل أن الكلام بها قد أوجب حكمًا، فله المطالبة للمعين على ما قاله مالك؛ لقوله: (وإنها صدقة يا رسول الله فضعها حيث أراك الله) فلم يجز لأبى طلحة الرجوع فيها بعد قوله: (إنها صدقة يا رسول الله) لأنه قد صح إخراجه لها عن ملكه بهذا اللفظ إلى ما يجوز له أخذها. وفيه: أن من أخرج شيئًا من ماله ولم يملكه أحدًا فجائز أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير على ما تقدم فى باب: إذا أوقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائز، وأنه يجوز أن يشاور فيه من يثق برأيه، وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى كما قال بعض الناس: معنى قول الرجل: لله، وفى سبيل الله كذا دون كذا، ألا ترى أن الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبى طلحة ولو سبلها فى وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره. وذهب مالك والشافعى إلى أن من حبس دارًا على قوم معينين أو تصدق عليهم بصدقة ولم يذكر أعقابهم، أو ذكر ولم يجعل لها بعدهم مرجعًا إلى المساكين أو إلى من لا يعدم وجوده من وجوه البر، فمات المحبس عليهم وانقرضوا؛ أنها لا ترجع إلى الذى حبسها أبدًا، وترجع حبسًا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع لا يوم حبس، ألا ترى أن أبا طلحة جعل حائطه ذلك صدقة لله ولم يذكر وجهًا من الوجوه التى توضع فيه الصدقة، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها فى أقاربه، وكذلك كل صدقة لا يذكر لها مرجع تصرف على أقارب المتصدق بدليل هذا الحديث، وهذا عند مالك فيما لم يرد به صاحبه حياة المتصدق عليه، فإذا أراد ذلك فهى عنده عمرى ترجع إلى صاحبها بعد انقراض المتصدق عليه، ولمالك فيها قول ثان: أنه إذا حبس على قوم معينين ولم يجعل لها مرجعًا إلى المساكين أنها ترجع ملكًا إلى ربها كالعمرى. قيل لمالك: لو قال فى صدقته: هى حبس على فلان هل تكون بذلك محبسة؟ قال: لا؛ لأنها لمن ليس بمجهول، وقد حبسها على فلان فهى عمرى؛ لأنه أخبر أن تحبيسها غير دائم ولا ثابت، وأنه إلى غاية. ولم يختلف قوله إذا قال: هى حبس صدقة أنها لا ترجع إليه أبدًا. فالألفاظ التى ينقطع بها ملك الشىء عن ربه ولا يعود إليه أبدًا عند مالك وأصحابه أن يقول: حبس صدقة، أو حبس لا يباع، أو حبس على أعقاب مجهولين مثل الفقراء والمساكين وفى سبيل الله. فهذا كله عندهم مؤبد لا يرجع إلى صاحبها ملك أبدًا. وأما إذا قال: حياة المحبس عليه أو إلى أجل من الآجال فإنها ترجع إلى صاحبها ملكًا أو إلى ورثته، وهى كالعمرى والسكنى. قال ابن المنذر: واختلفوا فى الرجل يأمر وصيه يضع ثلثه حيث أراه الله. فقالت طائفة: يجعله فى سبيل الخير ولا يأكله. هذا قول مالك وبه قال الشافعى وزاد: لا يعطيه وارثًا للميت؛ لأنه إنما كان يجوز له منه ما كان يجوز للميت. وقال أبو ثور: يجوز أن يعطيه لنفسه أو لولده أو لمن شاء، ويجعله لبعض ورثة الميت، وليست هذه وصية للميت إنما هذا أمر للموصى أن يضعه حيث يشاء. وهو قول الكوفيين غير أنهم قالوا: ليس له أن يجعلها لأحد من ورثة الميت؛ فإن جعله لبعضهم فهو باطل مردود على جميع الورثة. وفيه من الفقه: أن من تصدق بشىء من ماله بعينه أن ذلك يلزمه، وإن كان أكثر من ثلث ماله؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقل لأبى طلحة هل هو ثلث مالك؟ كما قال لأبى لبابة، وقال لسعد: الثلث كثير. وقد تقدم فى الزكاة.
- فيه: أَنَسٍ: (أَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ). وقف المشاع جائز عند مالك كهبته وإجارته وبه قال أبو يوسف والشافعى، وقال محمد ابن الحسن: لا يجوز. بناء على أصلهم فى الامتناع من إجارة المشاع، وحجة من أجاز ذلك أن بنى النجار جعلوا حائطكم لمكان المسجد وقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. وأجاز النبى صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم وكان ذلك وقفًا للمشاع، والحجة فى السنة لا فى خلافها.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ وَجَدَ مَالا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنْ شَئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذِى الْقُرْبَى وَالضَّيْفِ). ليس من شرط الوقف أن يكون للفقراء والمسّاكين خاصة، ألا ترى أن عمر شرط فى وقفه مع الفقراء والمساكين ذا القربى والضيف، وقد يكون فيهم أغنياء، وكذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طلحة: (إنى أرى أن تجعلها فى الأقربين)، فجعلها لحسان بن ثابت، وأبىّ بن كعب، ولم يكونوا فقراء، ولم يحرم الله على الأغنياء من الصدقات إلا الزكاة وصدقة الفطر خاصة، وأحل لهم الفئ والجزية وصدقات التطوع كلها، فجائز للموقف أن يجعل وقفه فيمن شاء من أصناف الناس، أغنياء كانوا أو فقراء، أو قرباء كانوا أو بعداء له، شرطه فى ذلك. وهذا لا خلاف فيه.
- فيه: أَنَسُ لَمَّا قَدِمَ النبى صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ). وترجم له باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فى هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى إبطاله الأوقاف والأحباس؛ لأن الأمة مجمعة أن من جعل أرضًا له مسجدًا للمسلمين فى صحته أنه ليس لورثته ردها ميراثًا بينهم. وقال أبو حنيفة فى الرجل يحبس داره على المساكين يسكنونها: أنها ترجع ميراثًا بين ورثته، ويجيز ذلك إن فعله فى مرضه أو فى وصيته، ويكون فى ثلثه فإن قال: إن المسجد لا يجوز له ولا لورثته الرجوع فيه بعد أن أخرجه فى صحته وجعله مسجدًا لجماعة المسلمين؛ قيل له: فما الفرق بين ما جعل من ذلك مسجدًا وبين ما جعله سقاية أو مقبرة أو موقفًا لجماعة المسلمين، وهل بينك وبين من عكس هذا عليك، فأجاز ما أبطلت، وأبطل ما أجزت فرق من أصل أو قياس؛ فلن يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله. قال الطبرى: وقد أجاز العلماء أوقاف أهل الذمة ولم يروا نقضها فكيف تنقض أوقاف المسلمين؟ ووجدت بخط أبى عبيد الحيرى: وسئل أبو الحسن على بن ميسرة القاضى البغدادى عن رجل كان له على نصرانى دين، فأفلس النصرانى ولا مال له سوى وقف أوقفه على مساكين أهل ملته قبل استحداثه الدين؛ هل يجوز نقض الوقف وأخذ المسلم له قضاء من دينه أم لا؟ فأجاب بأن قال بأن أهل الذمة ليست أملاكهم مستقرة، وإنما لهم شبهة ملك على ما فى أيديهم، فإذا اختاروا رفع أيديهم عن الشبهة ارتفعت، ولم يعترض عليهم فى نقض ما عقدوه مما لو كان فى شريعتنا لم يجز نقضه؛ لأنهم على ذلك صولحوا، ولما جاز إقرارهم على غير دين الحق إذا أعطوا الجزية وجب أن لا يعترض عليهم فى نقض وقف ولا غيره مما يتعلق بحق الله.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِى بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شَئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ، أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، فِى الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ، السَّبِيلِ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ). هذا الحديث أصل فى إجازة الحبس والوقف، وهو قول أهل المدينة والبصرة، ومكة والشام، والشعبى من أهل العراق، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعى، وقال أبو حنيفة وزفر: الحبس باطل، ولا يخرج عن مالك الذى أوقفه ويرثه ورثته، ولا يلزم الوقف عنده إلا أن يحكم به الحاكم وينفذه أو يوصى به بعد موته، وإذا أوصى به اعتبر من الثلث، فإن جمله الثلث جاز وإلا رد. وحجة الجماعة قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: (إن شئت حبست أصلها) وهذا يقتضى أن الشىء إذا حبس صار محبوسًا ممنوعًا منه، لا يجوز الرجوع فيه؛ لأن هذا حقيقة الحبس، ألا ترى أن عمر لما أراد التقرب بفعل ذلك رجع فى صفته إلى بيان النبى صلى الله عليه وسلم وذلك قوله: فتصدق بها عمر. أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث. وعند المخالف هذا باطل، وليس فى الشريعة صدقة بهذه الصفة. وأيضًا فإن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابرًا، كلهم أوقفوا الوقوف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. واحتج أبو حنيفة بما رواه عطاء، عن ابن المسيب قال: سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده؟ فقال: لا حبس على فرائض الله. قالوا: فهذا شريح قاضى عمر وعثمان وعلى والخلفاء الراشدين حكم بذلك واحتج أيضًا بما رواه ابن لهيعة، عن أخيه عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول بعد ما نزلت سورة النساء، وأنزل الله فيها الفرائض: نهى عن الحبس). قال الطبرى: ولا حجة له فى قول شريح؛ لأن من تصدق بماله فى صحة بدنه فقد زال ملكه عنه، ومحال أن يقال لما زال ملكه عنه قبل موته بزمان حبسه عن فرائض الله، ولو كان حابسًا عن فرائض الله من أزال ملكه عما ملكه لم يجز لأحد التصرف فى ماله، وفى إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول شريح؛ أنه بمعنى إبطال الصدقات المحرمات، فثبت أن الحبس عن فرائض الله إنما هو لما يملكه فى حال موته، فيبطل حبسه كما قال شريح، ويعود ميراثًا بين ورثته. ومثال ذلك أن يحبس مالا فى حياته على إنسان بعينه فيجعل له غلته دون رقبته، أو على قوم بأعيانهم، ولا يجعل لحبسه مرجعًا فى السبل التى لا يفقد أهلها بحال، فإن ذلك يكون حبسًا على فرائض الله، وليس فى حديث عطاء أن الرجل جعل لحبسه مرجعًا بعد انقراض ورثته، ولا أخرجها من يده إلى من حبسها عليه ولا إلى فائض حتى تحدث به الوفاة، فكانت لا شك أن صاحبها هلك وهى فى ملكه ولورثته بعد وفاته، فيكون هذا من الحبس عن فرائض الله، إذ كانت الصدقة لا تتم لمتصدق بها عليه إلا بقبضه لها. وأما الصدقة التى أمضى المصدق بها فى حياته على ما أذن الله به على لسان رسوله وعمل به الأئمة الراشدون، فليس من الحبس عن فرائض الله، ولا حجة فى قول شريح ولا أحد مع مخالفة السنة وعمل أئمة الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق. ويقال للمحتج بقول شريح فى إبطال الصدقات المحرمات فى الصحة: إن شريحًا لم يقل: لا حبس عن فرائض الله فى الصحة. فكيف وجب أن تكون صدقة المتصدق فى حال الصحة من الحبس عن فرائض الله ولا يجب أن تكون صدقة فى مرضه الذى يموت فيه، أو فى وصيته من الحبس عن فرائض الله؟ ومعنى الصدقتين واحد، وما البرهان على أن التى أجزت هى الجائزة والتى أبطلت هى الباطلة؟ فإن قال: إن للرجل فى مرضه إخراج ثلث ماله فيما شاء ولا اعتراض للورثة عليه فيه. قيل: وكذلك له فى حال صحته إخراج جميع ماله فيما شاء وليس للورثة عليه سبيل، ولما كان ما يفعله الرجل فى ثلثه لا يدخل فى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حبس عن فرائض الله) عند الجميع كان ما يفعله الرجل فى صحته أولى بذلك لمن أنصف. قال ابن القصار: وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله فى آخر عمره وأخوه غير معروف فلا حجة فيه، وقد تأول الناس فى حديث ابن عباس تأويلا هو أولى من تأويل شريح، وذلك أن معنى قوله: (لا حبس عن فرائض الله) منع ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كأن يحبسون ما يجعلونه كذلك ولا يورثونه أحدًا، فلما نزلت آية المواريث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حبس). فإن قيل: هذا تأويل فاسد؛ لأن قوله: (لا حبس) يقتضى نفى حبس فعل فى الإسلام، وفعل أهل الجاهلية لم يفعل فى الإسلام. قيل: هو نفى لما كانوا يفعلونه وهم كفار بعد الإسلام. فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف من ملك أربابها، لا إلى ملك مالك؟ قال الصحاوى: يقال لهم: وما ينكر هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدًا للمسلمين ويخلى بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير ملك ولكن إلى الله تعالى وكذلك الساقيات والجسور والقناطر فما ألزمت مخالفك فى حجتك عليه يلزمك فى هذا كله.
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَفَعَهَا إِلَى غُلامٍ لَهُ تَاجِرٍ، يَتْجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأقْرَبِينَ، هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ تِلْكَ الألْفِ شَيْئًا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِى الْمَسَاكِينِ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. - فيه: ابْنِ عُمَرَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلا، فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا، فَسَأَلَ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْتَاعَهَا، فَقَالَ: لا تَبْتَعْهَا، وَلا تَرْجِعَنَّ فِى صَدَقَتِكَ). اختلف العلماء فى وقف الحيوان والعروض والدنانير والدراهم فأجاز ذلك مالك إلا أنه كره وقف الحيوان أن يكون على العقب، فإن وقع أمضاه. وأجاز ابن القاسم وأشهب وقف الثياب، وقال محمد بن الحسن، والشافعى: يجوز وقف الحيوان. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز وقف الحيوان والعروض والدنانير والدراهم. وقالوا: إن هذه أعيان لا تبقى على حال أبد الدهر، فلا يجوز وقفها، وأيضًا فإن الوقف يصح على وجه التأبيد، فمن أوجبه فيما لا يتأبد صار كمن أوقف وقفًا مؤقتًا يومًا أو شهرًا أو سنة، وهذا لا يجوز. ولو صح الوقف فيما لا يتأبد لصح فى جميع الأثمان وسائر ما يملك كالهبة والوصية. وقال ابن القصار: الوقف المؤقت يجوز عند مالك، ويجوز فى جميع الأنواع مما يبقى غالبًا، والدليل على جواز وقف الحيوان والسلاح حديث عمر فى الفرس الذى حمل عليه فى سبيل الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تظلمون خالدًا، إنه قد حبس أدراعه وأعتده فى سبيل الله) وأعتده هى خيله، فأخبر أنه حبس خيله وسلاحه فى سبيل الله، ولفظ حبس يقتضى أن يكون محبوسًا عن جميع المنافع إلا على الوجه الذى حبس فيه، ولو لم يصح تحبيس ذلك لم يكونوا ظالمين فيما طلبوا من ذلك، ولكان صلى الله عليه وسلم يبطله. فإن قيل: لا حجة فى حديث عمر على جواز وقف الحيوان؛ لأن هذا الفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله إنما كان هبة منه له فلذلك جاز له بيعه، ولو كان حبسًا لم يجز بيعه، ولذلك قال الشافعى وابن الماجشون: لا يجوز بيع الفرس الحبس ويترك أبدًا. فالجواب: أن ربيعة ومالكًا أجازا بيع الفرس الحبس إذا لم يبق فيه قوة للغزو ويجعل ثمنه فى آخره. قال ابن لقاسم: فإن لم يبلغ شورك به فيه، وكذلك الثياب إذا لم يبق فيه منفعة بيعت واشترى بثمنها ما ينتفع به، فإن لم يكن تصدق به فى سبيل الله. وأما صحة الحجة لحديث عمر فى هذا الباب فإنه لا يخلو أن يكون هذا الفرس الذى حمل عليه عمر حبسًا أو هبة وتمليكًا. وعلى كلا الوجهين فقد جاز للرجل بيعه، ولم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم بفسخ البيع حين بلغه ذلك، وفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد) أن نهيه عن شرائه إنما كان على وجه التنزه لا على التحريم، ولو كان على التحريم لبين له صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل شراؤه بدرهم ولا بأقل، وقد تقدم شىء فى هذا المعنى فى باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فهو كالعمرى والصدقة فى آخر أبواب المنحة والهبات. واختلفوا فى حبس الدنانير والدراهم على من تكون زكاتها، فقال مالك فى المدونة: لو أن رجلا حبس مائة دينار موقوفة يسلفها الناس ويردونها هل ترى فيها زكاة؟ قال: نعم، الزكاة فيها قائمة كل عام. وخالف ذلك ابن القاسم فقال فى رجل قال لرجل: خذ هذه المائة دينار تتجر فيها ولك ربحها وليس عليك فيها ضمان، فليس على الذى هى فى يده أن يزكيها ولا على الذى هى له زكاتها حتى يقبضها فيزكيها زكاة واحدة. قال سحنون: أراها كالسلف، وعليه ضمانها إن تلفت، كالرجل يحبس المال على الرجل فينتقص أنه ضامن له. وأما قول الزهرى فى الرجل يجعل ألف دينار فى سبيل الله أنه لا يأكل من ربحها، فإنما ذلك إذا كان فى غنى عنها، وأما إن احتاج وافتقر فمباح له الأكل منها ويكون كأحد المساكين. قال ابن حبيب: وهذا قول مالك وجميع أصحابنا أنه ينفق على ولد الرجل وولد ولده من حبسه إذا احتاجوا، وإن لم يكن جعل لهم فى ذلك اسمًا، فإن استغنوا فلا حق لهم. واستحسن مالك أن لا يستوعبوها إذا احتاجوا وأن يكون منها سهم جار على الفقراء لئلا يدرس. وقاله ربيعة ويحيى بن سعيد.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى وَمَؤُنَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ). - وفيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِى وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ، وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالا. إنما أراد البخارى بقوله نفقة القيم للوقف والله أعلم أن يبين أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (مئونة عاملى) أنه عامل أرضه التى أفاءها الله عليه من بنى النضير وفدك وسهمه من خيبر، وليس عامله حافر قبره كما تأول بعض الفقهاء، واستشهد على ذلك البخارى بحديث عمر الذى أردفه بعده؛ أنه شرط فى وقفه أن يأكل من وليه بالمعروف. فبان بهذا أن العامل فى الحبس له منه أجرة عمله وقيامه عليه، وليس ذلك بتغيير للحبس ولا نقض لشرط المحبس إذا حبس على قوم بأعيانهم، لا غنى عن عامل يعمل للمال، وفى هذا من الفقه جواز أخذ أجرة القسام من المال المقسوم، وإنما كره العلماء أجر القسام؛ لأن على الإمام أن يرزقهم من بيت المال؛ فإن لم يفعل فلا غنى بالناس عن قاسم يقسم بينهم، كما لا غنى عن عامل يعمل فى المال، ومما يشبه هذا المعنى ما روى ابن القاسم عن مالك، فى الإمام يذكر له أن ناحية من عمله كثيرة العشور قليلة المساكين، وناحية أخرى قليلة العشور كثيرة المساكين فهل له أن يتكارى ببعض العشور حتى يحملها إلى الناحية الكثيرة المساكين فكره ذلك وقال: أرى أن يكارى عليه من الفئ أو يبيعه ويشترى هناك طعامًا. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه من الفئ، أو يبيعه ويشترى هناك طعامًا. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه من الفئ، ولكن يبيعه ويشترى بثمنه طعامًا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما تركته بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) يبين فساد قول من أبطل الأحباس والأوقاف من أجل أنها كانت مملوكة قبل الوقف، وأنه لا يجوز أن تكون ملكًا لمالك ينتقل إلى غير مالك فيقال له: أما أموال بنى النضير وفدك وخيبر لم تنتقل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ملكها، بل هى صدقة منه ثابتة على الأيام والليالى، تجرى عنه فى السبل التى أجراها فيها منذ قبض صلى الله عليه، فكذلك حكم الصدقات المحرمة قائمة على أصولها جارية عليها فيما سبلها فيه صاحبها لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يملك.
وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا. وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ، وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ، فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ، وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِى الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِاللَّهِ. - فيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ حين حُوصِرَ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، وَلا أَنْشُدُ إِلا أَصْحَابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ. وقال عُمَرُ فِى وَقْفِهِ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ فَهُوَ وَاسِعٌ لِكُلٍّ. قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبًا فى وقفه أن ذلك جائز، وقد تقدم هذا المعنى فى باب هل ينتفع الواقف بوقفه. وأما حديث بئر رومة فإنه وقع فى هذا الباب أن عثمان قال: (ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها) من رواية شعبة، عن أبى إسحاق السبيعى، عن أبى عبد الرحمن السلمى. وهو وهم ممن دون شعبة والله أعلم، والمعروف فى الأخبار أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها، روى ذلك أبو عيسى الترمذى قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقى، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن زيد بن أبى أنيسة، عن أبى إسحاق، عن أبى عبد الرحمن قال: (هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغنى والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم) ورواه معمر بن سليمان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد مولى بنى أسد، عن عثمان قال: (ألستم تعلمون أنى اشتريت...) ورواه عباس الدورى، عن يحيى بن أبى الحجاج المنقرى، عن أبى مسعود الجريرى، عن ثمامة بن حزن القشيرى قال: (شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: من يشترى بئر رومة ويجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين وله بها مشرب فى الجنة. فأتى عثمان اليهودى فساومه بها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثنى عشر ألف درهم فجعله للمسلمين. فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبى قرنين، وإن شئت فلى يوم ولك يوم. فقال: بل لى يوم ولك يوم. فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى ذلك اليهودى قال: أفسدت على ركيتى فاشتر منى نصيبى. هذا الذى نقله أهل الخبر والسير، ولا يوجد أن عثمان حفرها إلا فى حديث شعبة، والله أعلم ممن جاء الوهم، وذكر ابن الكلبى أنه كان يشترى منها قربة بدرهم قبل أن يشتريها عثمان.
- فيه: أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ، قَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ). قال المؤلف: إنما قال لهم: (ثامنونى) أى: اطلبوا ثمن حائطكم منى، ليبتاعه لمكان المسجد. فقالوا له: لا نبتغى الثمن فيه إلا من الله، فكان ذلك تسليما منهم للحائط وإخراجًا له من ملكهم لله، لا يجوز رجوعهم فيه، وأجاز ذلك النبى صلى الله عليه وسلم وكان من فعلهم بمنزلة ما لو اشتراه النبى صلى الله عليه وسلم ووقفه لمكان المسجد. فإن قيل: قولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ليس من الألفاظ الموجبة للتحبيس والوقف عند الفقهاء، وإنما يوجب التحبيس عندهم قوله: هو حبس صدقة، أو حبس مؤبد، أو حبس فقط عند مالك على ما تقدم. فالجواب: أنه لما اقترن بقولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ما علموه أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أراد ابتياع الحائط منهم لمكان المسجد، قام ذلك مقام قولهم: هو حبس لله. ولا خلاف أنه لو قال رجل: جعلت دارى هذه مسجدًا. أنها وقف غير مملك. وقولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) كقولك: طلبت إلى الله، وطلبت من الله بمعنى واحد.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ وَعَدِىِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِىُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِىٍّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَحَلَفَا: (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا (وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية فروى عن ابن عباس أنه أجاز شهادة أهل الكفر على المسلمين فى الوصية فى السفر. وأخذ بذلك الحديث الشعبى وابن المسيب وجماعة من التابعين، ورأوا الآية محكمة غير منسوخة. وقالت طائفة: الآية منسوخة. وهو قول مالك والكوفيين والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]، وقالوا: لا يكون أهل الكتاب عدولا ممن ترضى شهادته. وقد تقدمت هذه المسألة فى آخر كتاب الشهادات. وروى ابن جريح عن عكرمة فى هذه الآية قال: (كان تميم الدارى وأخوه نصرانيين وهما من لخم، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فقدم ابن أبى مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرًا، فخرجوا جميعًا حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبى مارية فكتب وصيته بيده، ثم دسها فى متاعه، وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه فوجدوا فيها أشياء فأخذاها، فلما قدما على أهله فتحوا متاعه فوجدوا وصيته قد كتب فيها عهده وما خرجوا به، ففقدوا منه أشياء فسألوهما، فقالا: هذا الذى قبضنا له. فرفعوهما إلى النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية إلى: (الآثمين} [المائدة: 106] فأمرهما النبى صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما بالله الذى لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله، ثم ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما فقالوا: هذا من متاعه. فقالا: اشتريناه منه. فارتفعوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت: (فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما} [المائدة: 107] من أولياء الميت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت فكان يقول: صدق الله ورسوله وبلغ، إنى لأنا أخذت الإناء. والجام إنما يشرب به. وقولهم: مخوص من ذهب يعنى: أنه نقش فيه صفة الخوص وطلى بالذهب، والخوص: ورق النخل والمقل.
- فيه: جَابِرُ (أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِى اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ، قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِى تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ أَصْحَابَكَ، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِى، وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّىَ، اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِى وَلا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِى بِتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا، حَتَّى أَنِّى أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً). قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أن الوصى يجوز له أن يقضى ديون الميت بغير محضر الورثة على حديث جابر؛ لأنه لم يحضر جميع ورثة أبيه عند اقتضاء الغرماء ديونهم، وإنما اختلفوا فى مقاسمة الوصى للموصى له على الورثة، فروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: تجوز مقامسة الوصى على الصغار ولا تجوز على الكبير الغائب. وهو قول أبى حنيفة، قال مالك: لا يقاسم على الكبير الغائب إلا السلطان. قال أبو حنيفة: ومقاسمة الورثة الوصى على الموصى له باطل، فإن ضاع نصيب الموصى له عند الوصى رجع به على الورثة. وأجازها أبو يوسف وقال: القسمة جائزة على الغيب ولا رجوع لهم على الحضور، وإن ضاع ما أخذ الوصى. وقال الطحاوى: القياس أن لا يقسم على الكبار ولا على الموصى له؛ لأنه لا ولاية له عليهم وليس يوصى للموصى له.
|